سورة التوبة - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (التوبة)


        


{قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52)}
اعلم أن هذا هو الجواب الثاني عن فرح المنافقين بمصائب المؤمنين، وذلك لأن المسلم إذا ذهب إلى الغزو، فإن صار مغلوباً مقتولاً فاز بالاسم الحسن في الدنيا والثواب العظيم الذي أعده الله للشهداء في الآخرة، وإن صار غالباً فاز في الدنيا بالمال الحلال والاسم الجميل، وهي الرجولية والشوكة والقوة، وفي الآخرة بالثواب العظيم.
وأما المنافق إذا قعد في بيته فهو في الحال في بيته مذموماً منسوباً إلى الجبن والفشل وضعف القلب والقناعة بالأمور الخسيسة من الدنيا على وجه يشاركه فيها النسوان والصبيان والعاجزون من النساء، ثم يكونون أبداً خائفين على أنفسهم وأولادهم وأموالهم، وفي الآخرة إن ماتوا فقد انتقلوا إلى العذاب الدائم في القيامة، وإن أذن الله في قتلهم وقعوا في القتل والأسر والنهب، وانتقلوا من الدنيا إلى عذاب النار، فالمنافق لا يتربص بالمؤمن إلا إحدى الحالتين المذكورتين، وكل واحدة منهما في غاية الجلالة والرفعة والشرف، والمسلم يتربص بالمنافق إحدى الحالتين المذكورتين، أعني البقاء في الدنيا مع الخزي والذل والهوان، ثم الانتقال إلى عذاب القيامة والوقوع في القتل والنهب مع الخزي والذل، وكل واحدة من هاتين الحالتين في غاية الخساسة والدناءة، ثم قال تعالى للمنافقين: {فَتَرَبَّصُواْ} بنا إحدى الحالتين الشريفتين {إِنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبّصُونَ} وقوعكم في إحدى الحالتين الخسيستين النازلتين.
قال الواحدي: يقال فلان يتربص بفلان الدوائر، وإذا كان ينتظر وقوع مكروه به، وهذا قد سبق الكلام فيه.
وقال أهل المعاني: التربص، التمسك بما ينتظر به مجيء حينه، ولذلك قيل: فلان يتربص بالطعام إذا تمسك به إلى حين زيادة سعره، والحسنى تأنيث الأحسن.
واختلفوا في تفسير قوله: {بِعَذَابٍ مّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا} قيل: من عند الله. أي بعذاب ينزله الله عليهم في الدنيا، أو بأيدينا بأن يأذن لنا في قتلكم. وقيل: بعذاب من عند الله، يتناول عذاب الدنيا والآخرة، أو بأيدينا القتل.
فإن قيل: إذا كانوا منافقين لا يحل قتلهم مع إظهارهم الإيمان، فكيف يقول تعالى ذلك؟
قلنا قال الحسن: المراد بأيدينا إن ظهر نفاقكم، لأن نفاقهم إذا ظهر كانوا كسائر المشركين في كونهم حرباً للمؤمنين، وقوله: {فَتَرَبَّصُواْ} وإن كان بصيغة الأمر، إلا أن المراد منه التهديد، كما في قوله: {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم} والله أعلم.


{قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (53)}
اعلم أنه تعالى لما بين في الآية الأولى أن عاقبة هؤلاء المنافقين هي العذاب في الدنيا وفي الآخرة، بين أنهم وإن أتوا بشيء من أعمال البر فإنهم لا ينتفعون به في الآخرة، والمقصود بيان أن أسباب العذاب في الدنيا والآخرة مجتمعة في حقهم، وأن أسباب الراحة والخير زائلة عنهم في الدنيا وفي الآخرة، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قرأ حمزة والكسائي {كَرْهاً} بضم الكاف هاهنا، وفي النساء والأحقاف، وقرأ عاصم وابن عامر في الأحقاف بالضم من المشقة، وفي النساء والتوبة بالفتح من الإكراه والباقون بفتح الكاف في جميع ذلك. فقيل: هما لغتان. وقيل: بالضم المشقة وبالفتح ما أكرهت عليه.
المسألة الثانية: قال ابن عباس: نزلت في الجد بن قيس حين قال للنبي صلى الله عليه وسلم ائذن لي في القعود وهذا ما لي أعينك به.
واعلم أن السبب وإن كان خاصاً إلا أن الحكم عام، فقوله: {أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً} وإن كان لفظه لفظ أمر، إلا أن معناه معنى الشرط والجزاء. والمعنى: سواء أنفقتم طائعين أو مكرهين فلن يقبل ذلك منكم.
واعلم أن الخبر والأمر يتقاربان، فيحسن إقامة كل واحد منهما مقام الآخر.
أما إقامة الأمر مقام الخبر، فكما هاهنا، وكما في قوله: {استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [التوبة: 80] وفي قوله: {قُلْ مَن كَانَ فِي الضلالة فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرحمن مَدّاً} [مريم: 75] وأما إقامة الخبر مقام الأمر، فكقوله: {والوالدات يُرْضِعْنَ أولادهن} [البقرة: 233] {والمطلقات يتربصن بأنفسهن} [البقرة: 228] وقال كثير:
أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة *** لدينا ولا مقلية إن تقلت
وقوله: {طَوْعاً أَوْ كَرْهاً} يريد طائعين أو كارهين. وفيه وجهان:
الأول: طائعين من غير إلزام من الله ورسوله أو مكرهين من قبل الله ورسوله، وسمى الإلزام إكراهاً لأنهم منافقون، فكان إلزام الله إياهم الإنفاق شاقاً عليهم كالإكراه، والثاني: أن يكون التقدير: طائعين من غير إكراه من رؤسائكم، لأن رؤساء أهل النفاق كانوا يحملون الاتباع على الإنفاق لما يرون من المصلحة فيه أو مكرهين من جهتهم.
ثم قال تعالى: {لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ} يحتمل أن يكون المراد أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يتقبل تلك الأموال منهم، ويحتمل أن يكون المراد أنها لا تصير مقبولة عند الله.
ثم قال تعالى: {إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْماً فاسقين} وهذا إشارة إلى أن عدم القبول معلل بكونهم فاسقين.
قال الجبائي: دلت الآية على أن الفسق يحبط الطاعات، لأنه تعالى بين أن نفقتهم لا تقبل البتة، وعلل ذلك بكونهم فاسقين، ومعنى التقبل هو الثواب والمدح، وإذا لم يتقبل ذلك كان معناه أنه لا ثواب ولا مدح، فلما علل ذلك بالفسق دل على أن الفسق يؤثر في إزالة هذا المعنى، ثم إن الجبائي أكد ذلك بدليلهم المشهور في هذه المسألة، وهو أن الفسق يوجب الذم والعقاب الدائمين، والطاعة توجب المدح والثواب الدائمين، والجمع بينهما محال. فكان الجمع بين حصول استحقاقهما محالاً.
واعلم أنه كان الواجب عليه أن لا يذكر هذا الاستدلال بعد ما أزال الله هذه الشبهة على أبلغ الوجوه، وهو قوله: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نفقاتهم إِلا أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بالله وَبِرَسُولِهِ} فبين تعالى بصريح هذا اللفظ أنه لا مؤثر في منع قبول هذه الأعمال إلا الكفر، وعند هذا يصير هذا الكلام من أوضح الدلائل على أن الفسق لا يحبط الطاعات، لأنه تعالى لما قال: {إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْماً فاسقين} فكأنه سأل سائل وقال: هذا الحكم معلل بعموم كون تلك الأعمال فسقاً، أو بخصوص كون تلك الأعمال موصوفة بذلك الفسق؟ فبين تعالى به ما أزال هذه الشبهة، وهو أن عدم القبول غير معلل بعموم كونه فسقاً، بل بخصوص وصفه وهو كون ذلك الفسق كفراً. فثبت أن هذا الاستدلال باطل.


{وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54)}
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: دل صريح هذه الآية على أنه لا تأثير للفسق من حيث إنه فسق في هذا المنع، وذلك صريح في بطلان قول المعتزلة على ما لخصناه وبيناه.
المسألة الثانية: ظاهر اللفظ يدل على أن منع القبول بمجموع الأمور الثلاثة، وهي الكفر بالله ورسوله، وعدم الإتيان بالصلاة إلا على وجه الكسل، والإنفاق على سبيل الكراهية.
ولقائل أن يقول: الكفر بالله سبب مستقل في المنع من القبول، وعند حصول السبب المستقل لا يبقى لغيره أثر، فكيف يمكن إسناد هذا الحكم إلى السببين الباقيين؟
وجوابه: أن هذا الإشكال إنما يتوجه على قول المعتزلة، حيث قالوا: إن الكفر لكونه كفراً يؤثر في هذا الحكم، أما عندنا فإن شيئاً من الأفعال لا يوجب ثواباً ولا عقاباً البتة، وإنما هي معرفات واجتماع المعرفات الكثيرة على الشيء الواحد محال، بل نقول: إن هذا من أقوى الدلائل اليقينية على أن هذه الأفعال غير مؤثرة في هذه الأحكام لوجوه عائدة إليها، والدليل عليه أنه تعالى بين أنه حصلت هذه الأمور الثلاثة في حقهم، فلو كان كل واحد منها موجباً تاماً لهذا الحكم، لزم أن يجتمع على الأثر الواحد أسباب مستقلة، وذلك محال، لأن المعلول يستغنى بكل واحد منها عن كل واحد منها، فيلزم افتقاره إليها بأسرها حال استغنائه عنها بأسرها، وذلك محال، فثبت أن القول بكون هذه الأفعال مؤثرة في هذه الأحكام يفضي إلى هذا المحال، فكان القول به باطلاً.
المسألة الثالثة: دلت هذه الآية على أن شيئاً من أعمال البر لا يكون مقبولاً عند الله مع الكفر بالله.
فإن قيل: فكيف الجمع بينه وبين قوله: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} [الزلزلة: 7] قلنا: وجب أن يصرف ذلك إلى تأثيره في تخفيف العقاب، ودلت الآية على أن الصلاة لازمة للكافر، ولولا ذلك لما ذمهم الله تعالى على فعلهاعلى وجه الكسل.
فإن قالوا: لم لا يجوز أن يقال الموجب للذم ليس هو ترك الصلاة؟ بل الموجب للذم هو الإتيان بها على وجه الكسل جارياً مجرى سائر تصرفاتها من قيام وقعود، وكما لا يكون قعودهم على وجه الكسل مانعاً من تقبل طاعتهم، فكذلك كان يجب في صلاتهم لو لم تجب عليهم.
المسألة الرابعة: مضى تفسير الكسالى في سورة النساء.
قال صاحب الكشاف: {كسالى} بالضم والفتح جمع الكسلان: نحو سكارى وحيارى في سكران وحيران.
قال المفسرون: هذا الكسل معناه أنه إن كان في جماعة صلى، وإن كان وحده لم يصل.
قال المصنف: إن هذا المعنى إنما أثر في منع قبول الطاعات، لأن هذا المعنى يدل على أنه لا يصلي طاعة لأمر الله وإنما يصلي خوفاً من مذمة الناس، وهذا القدر لا يدل على الكفر.
أما لما ذكره الله تعالى بعد أن وصفهم بالكفر، دل على أن الكسل إنما كان لأنهم يعتقدون أنه غير واجب، وذلك يوجب الكفر.
أما قوله: {وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كارهون} فالمعنى: أنهم لا ينفقون لغرض الطاعة، بل رعاية للمصلحة الظاهرة، وذلك أنهم كانوا يعدون الإنفاق مغرماً وضيعة بينهم، وهذا يوجب أن تكون النفس طيبة عند أداء الزكاة والإنفاق في سبيل الله، لأن الله تعالى ذم المنافقين بكراهتهم الإنفاق، وهذا معنى قوله عليه السلام: «أدوا زكاة أموالكم طيبة بها نفوسكم» فإن أداها وهو كاره لذلك كان من علامات الكفر والنفاق.
قال المصنف رضي الله عنه: حاصل هذه المباحث يدل على أن روح الطاعات الإتيان بها لغرض العبودية والانقياد في الطاعة، فإن لم يؤت بها لهذا الغرض، فلا فائدة فيه، بل ربما صارت وبالاً على صاحبها.
المسألة الخامسة: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نفقاتهم} قرأ حمزة والكسائي {أن يَقْبَلُ} بالياء والباقون بالتاء على التأنيث.
وجه الأولين: أن النفقات في معنى الإنفاق، كقوله: {فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ} ووجه من قرأ بالتأنيث أن الفعل مسند إلى مؤنث.
قال صاحب الكشاف: قرئ {نفقاتهم} و{نَفَقَتُهُمْ} على الجمع والتوحيد.
وقرأ السلمي {أن يقبل منهم نفقاتهم} على إسناد الفعل إلى الله عز وجل.

9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16